الامام الشافعي محمد بن إدريس اسمه: محمد، ويكنى، أبو عبد الله.
نسبه من جهة أبيه: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد ابن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.
نسبه من جهة أمه: القول المشهور أن أم الشافعي كانت امرأة من الازد، وروى أنس بن مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الازد أزد الله " وهذا يدل على مزيد الشرف بسبب هذه الاضافة الدالة على الاختصاص كقولنا " بيت الله " و " ناقة الله ".
زواجه ومتى كان: تزوج الشافعي بالسيدة حميدة بنت نافع حفيدة عثمان بن عفان بعد وفاة الامام مالك سنة 197 ه وكان عمره إذ ذاك ما يقرب من ثلاثين سنة كما أنه كانت له سرية من الاماء.
أولاده: رزق من امرأته العثمانية أبو عثمان محمد، وابنتان، فاطمة وزينب وقد ارتقى أبو عثمان محمد في المناصب حتى كان قاضيا لمدينة حلب.
ورزق من سريته ابن آخر يقال له: الحسن بن محمد بن إدريس، مات وهو طفل.
صفاته وحليته: كان رجلا طويلا حسن الخلق محببا إلى الناس نظيف الثياب فصيح اللسان
شديد المهابة كثير الاحسان إلى الخلق وكان يستعمل الخضاب بالحمرة عملا بالسنة وكان جميل الصوت في القراءة حتى ان علماء مكة كانوا وهو في الثالثة عشرة من العمر إذا أرادوا البكاء من خشية الله اجتمعوا وقالوا: هيا بنا إلى ذلك الصبي المطلبي ليسمعنا القرآة فيبكينا، فإذا جاؤا وسمعوه تساقطوا بين يديه من كثرة البكاء، وكان إذا رأى منهم ذلك أمسك عن القراءة شفقة عليهم متى وأين ولد: في شهر رجب من سنة 150 ه 767 من ولدت السيدة فاطمة أم حبيبة الازدية غلاما سمعته محمدا (وهو الامام الشافعي).
أما والده المدكور فكان رجلا حجازيا فقيرا، خرج مهاجرا من مكة إلى الشام وأقام ب " غزة " و " عسقلان " ببلاد فلسطين ثم مات بعد ولادة الشافعي بقليل فكفلته أمه.
كبر الغلام وبلغ من العمر سنتين وأصبح قرة عين والدته، فرأت أمه أن تحمله إلى مكة المكرمة صونا لنسبه من الضياع إذا بقي في " غزة " ونزلت بجوار الحرم بحي يقال له " شعب الخيف ".
بدء تعلمه: ولما ترعرع أرسلته أمه إلى الكتاب ولما لم يكن في طاقة أهله القيام بنفقات تعليمه أهمله المعلم وانصرف عنه إن المعلم والطبيب كلاهما * لا ينصحان إذا هما لم يكرما إلا أن هذا التقصير من المعلم كان سببا في نبوغ الصبي لانه اجتهد أن يكون دائما وقت الدرس قريبا من المعلم وكان يستوعب بحافظته النادرة جميع ما يحفظه المعلم للصبيان حتى إذا ذهب المعلم لقضاء حاجة أخذ الشافعي يحفظ التلاميذ ما حفظه من المعلم، وبهذه الوسيلة قويت حافظة الامام الشافعي تدريجيا، فأحبه التلاميذ والتفوا حوله ورفعوا مكانته وصاروا طوع أمره.
ولما رأى المعلم من الشافعي هذه الحال وانه يجنى من ورائه أضعاف ما كان يطمع فيه من الاجر، صرف عنه المطالبة بالمصروفات واعتبره في كتابه مجانا.
ولما بلغ الشافعي من العمر سبع أو تسع سنوات كان قد أتم القرآن الكريم كله.
فرأى انه لا فائدة من بقائه في الكتاب فتركه ودخل المسجد الحرام وأقبل على علوم اللغة ودراستها أياما فبرع فيها كلها.
وبرع في لهجات العرب بسبب تلقيه اللغة عن شتى قبائل البادية فلما حصل له من ذلك الحظ الاوفر قيل له: لو ضممت إلى ذلك، الفقه وعلوم القرآن والحديث؟! فانصرب إليها.
شيوخه بمكة: دخل المسجد الحرام وصار يجالس العلماء ويحفظ الحديث وعلوم القرآن، فقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين وقرأ الحديث على سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد الزنجي، وسعيد بن سالم القداح، وداود بن عبد الرحمن العطار، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد.
شيوخه بالمدينة: وتلقى العلم بالسنة في المدينة على الامام مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد الانصاري وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وإبراهيم بن أبي يحيى الاسامي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك، وعبد الله بن نافع الصائغ.
شيوخ باليمن: وسمع الحديث والفقه في اليمن، من مطرف بن مازن، وهشام بن يوسف قاضي " صنعاء " وعمرو بن أبي سلمة صاحب الاوزاعي، ويحيى بن حسان صاحب الليث بن سد شيوخه بالعراق: وسمع الحديث والفقه وعلو القرآن في العراق من وكيع بن الجراح، وأبو أسامة حماد بن أسامة الكوفيان، وإسماعيل بن علية، وعبد الوهاب بن عبد المجيد البصريان.
فيكون عدد شيوخه على هذا تسعة عشرة، خمسة من مكة، وستة من المدينة وأربعة من اليمن، وأربعة من العراق.
هذا ما أفاده الرازي في مناقب الامام الشافعي.
تلاميذه: نبغ على الشافعي كثير من الناس، في مقدمتهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل، والحسن ابن محمد الصباح الزعفراني، والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأبو إبراهيم إسماعيل ابن يحيى المزني، وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، وأبو حفص حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبى، وأبو يوسف يونس بن عبد الاعلى، ومحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم المصري، وعبد الله بن الزبير الحميدي.
رحلاته العلمية: كانت الرحلة على ما فيها من المشاق في سبيل تلقي العلم ديدن العلماء، حيث يكون التلاقي بين رواد العلم والعلماء ويحصل التبحر في العلم.
فلذا نرى الامام الشافعي
ينهج هذا السبيل وأول رحلاته كانت إلى المدينة لما سمع بالامام مالك، فسمع الموطأ وحفظه ولقي من الامام مالك إكراما وإجلالا حتى إنه أجلسه في مجلسه وكلفه أن يقرأ الموطأ على الناس ويمليه عليهم، فأقام هكذا ضيفا عند الامام مالك ثمانية أشهر.
رحلته الاولى إلى بغداد: كان من عادة المصريين ان يتوجهوا إلى المدينة بعد أداء فريضة الحج للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولسماع الموطأ على الامام مالك.
قال الشافعي: فأحليت الموطأ عليهم حفظا، منهم عبد الله بن عبد الحكم وأشهب بن القاسم (قال الربيع: وأحسب أنه ذكر الليث بن سعد) ثم قدم بعد ذلك أهل العراق المسجد للصلاة فيه وزائرين نبيهم.
قال الشافعي: فرأيت بين القبر والمنبر فتى جميل الوجه، نظيف الثياب، حسن الصلاة، فتوسمت فيه خيرا، فسألته عن اسمه، فأخبرني، وسألته عن بلده فقال لي: العراق.
قال الشافعي: فقلت، أي العراق؟ فقال: في الكوفة.
فقلت: من العالم بها والمتكلم في نص كتاب الله عزوجل والمفتي بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لي: محمد بن الحسن، وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة.
قال الشافعي: فقلت: ومتى عزمتم تظعنون؟ فقال لي: غداة غد عند انفجار الفجر.
فعدت إلى مالك فقلت له: قد خرجت من مكة في طلب العلم بغير استئذان العجوز، فأعود إليها أو أرحل في طلب العلم.
؟ فقال لي: العلم فائدة يرجع منها إلى عائدة، ألم تعلم بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب؟ قال الشافعي: فلما أزمعت على السفر زودني مالك بصاع من أقط وصاع من شعير وصاع من تمر وسقاء ماء.
فلما كان السحر وانفجر الفجر حمل بعض الاداوة وسار معي مشيعا إلى البقيع فصاح بعلو صوته: من معه كرى راحلة إلى الكوفة؟ فأقبلت عليه فقلت له: لم تكتري ولا شئ معك ولا شئ معي؟ فقال لي: لما انصرفت البارحة عنك بعد صلاة العشاء الآخرة إذ قرع علي قارع الباب فخرجت إليه فأصبت عبد الرحمن بن القاسم المصري، فسألني قبول هديته فقبلتها.
فدفع إلي صرة فيها مائة مثقال، وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي.
وبعد أربعة وعشرين يوما وصل ركب الحاج العراقي إلى الكوفة، وهناك اجتمع بالامامين، أبي يوسف، ومحمد، وحصل بين الشافعي وبينهما محادثات ومناظرات علمية، لا يتسع المقام لذكر تفاصيلها.
وقد أكرم الامام محمد مثوى الشافعي، وعرف قدره، وأكرم ضيافته.
أقام الشافعي مدة في الكوفة ضيفا على محمد بن الحسن نسخ في خلالها كثيرا من الكتب، وتلقى العلم عليه وكتب عنه حمل بعير من الكتب.
ثم بدا للشافعي أن يطوف في بلاد فارس وما حولها من بلاد الاعاجم وأن يطوف البلاد العراقية فدخل بغداد وغيرها، ثم سافر إلى ديار ربيعة ومضر ومنها رحل إلى شمال العراق حتى وصل إلى جنوب بلاد الروم (الاناضول) وعرج على " حران " وأقام بها زمنا، ثم سافر إلى فلسطين وأقام ب (الرملة) واستغرقت هذه الرحلة سنتين بدأها سنة 172 ه وانتهت سنة 174 ه ازداد فيها علما ووقف على أمور
العباد وعرف طبائع سكان تلك البلاد التي زارها وأخلاقهم وعاداتهم، ولغاتهم كما تعرف على كثير ممن أملى عليهم الموطأ وهو في المدينة فكانوا خير معين له في هذه السياحة.
رحلته الثانية إلى المدينة: وبينما هو في " الرملة " ذات يوم إذ أقبل ركب المدينة من الحجاز فسألهم الشافعي عن مالك فقالوا: إنه بخير وقد اتسعت أرزاقه فاشتاق الشافعي لرؤية الامام مالك في حال غناه كما رآه في حال فقره من المال، فركب راحلته ووصل المدينة بعد سبعة وعشرين يوما.
فوافق دخوله ساعة العصر 174 ه وقصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وصلى العصر فرأى كرسيا من الحديد عليه مخدة وحول الكرسي نحو اربعمائة دفتر، وينما هو كذلك إذ رأى مالكا داخلا وقد فاح عطره في المسجد وحوله جماعة يحملون ذيله حتى جلس على الكرسي، ثم طرح مسألة إثر مسألة في جراح العمد على الموجودين فلم يجب أحد.
فضاق صدر الشافعي ونظر إلى رجل كان بجانبه وهمس إليه في أذنه بالجواب، فقال الرجل: الجواب كذا وكذا كما سمعه من الشافعي، ولما تكررت إجابة هذا الرجل بالصواب في كل مسألة قال له مالك: من أين لك هذا العلم؟ فقال الرجل: إن بجانبى شابا
يقول لي: الجواب كذا وكذا، فاستدعى الامام مالك الشاب فإذا هو الشافعي، فضمنه مالك إلى صدره ونزل عن كرسيه وقال له: أتمم أنت هذا الباب.
وبعد أن أتم الشافعي الدرس أخذه الامام مالك إلى بيته، ولم يمض على عودة الشافعي إلى المدينة زمن طويل حتى جاءت الاخبار من مصر بوفاة الامام الليث بن سعد في نصف شعبان سنة 175 ه فحزن لوفاته مالك والشافعي.
أقام الشافعي بعد ذلك في المدينة المنورة أربع سنوات وأشهرا ملحوظا بعين الامام مالك إلى أن توفي الامام مالك في شهر ربيع الاول سنة 197 ه ودفن بالبقيع وبقي الشافعي في المدينة ولا معين له إلا الله تعالى، وكان عمره عامئذ 29 سنة تقريبا.
رحلته إلى اليمن: وصادف بعد وفاة الامام مالك أن جاء والي اليمن إلى المدينة فكلمه جماعة من قريش، فأخذه إلى صنعاء اليمن وقلده عملا مستقلا أحسن الشافعي إدارته ونال ثناء الناس عليه وأحبه الوالي وتعلم علم الفراسة من أهل اليمن الذين كانوا يجيدون فقهها حتى تفوق فيه.
محنته وأسبابها: وهي الرحلة الثانية إلى العراق لما لمع نجمه في اليمن نظرا لعلو كعبه في مختلف العلوم وما أحرزه من المكانة العالية عند الوالي حسده الحاسدون وحقد عليه الحاقدون، فوشوا به عند الخليفة هارون الرشيد في بغداد واتهموه بأنه رئيس حزب العلويين وأنه يدعو إلى عبد الله بن المحض الحسن المثنى بن الحسين السبط.
فأرسل هارون الرشيد أحد قواده إلى اليمن، فبعث له ذلك القائد بكتاب يخوفه ما العلويين ويذكر له فيه الشافعي ويقول عنه: إنه يعمل بلسانه ما لا يقدر المقاتل عليه بحسامه وسناه، وإن أردت يا أمير المؤمنين ان تبقى الحجاز عليك فاحملهم إليك.
فبعث الرشيد إلى والي اليمن يأمره بأن يحمل العلويين إلى بغداد ومعهم الشافعي مكبلا بالحديد.
فاعتقلهم الوالي ومعهم الشافعي، ووضع في رجليه الحديد تنفيذا لامر الخليفة، وأرسلهم إلى بغداد، فدخلوها في غسق الليل وأحضروهم بين يدى هارون الرشيد وكان جالسا وراء ستارة وكانوا
يقدمون إليه واحدا واحدا، وكل من تقدم منهم قطع رأسه.
كل ذلك والشافعي يدع ربه بدعائه المشهور عنه " اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير " يكرره مرارا.
ولما جاء دوره حملوه إلى الخليفة وهو مثقل بالحديد، فرمى من بحضرة الخليفة بأبصارهم إليه.
فقال الشافعي: السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته ولم يقل " رحمة الله ".
فقال الرشيد: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها، ورددنا عليك فريضة قامت بذاتها، ومن العجب أن تتكلم في مجلسي بغير أمرى.
فقال الشافعي: إن الله تعالى قال في كتابه العزيز (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) وهو الذي إذا وعد وفى، فقد مكنك في أرضه وأمنني بعد خوفي حيت رددت على السلاة بقولك " وعليك رحمة الله " فقد شملتني رحمة الله بفضلك يا أمير المؤمنين.
فقال الرشيد: وما عذرك من بعد ما ظهر أن صاحبك (يريد عبد الله بن الحسن) طغى علينا وبغى واتبه الارذلون وكنت أنت الرئيس عليهم.
فقال الشافعي: أما وقد استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل والانصاف، لكن الكلام مع ثقل الحديد صعب، فإن جدت علي بفكه عن قدمي جثيت على ركبتي كسيرة آبائي عند آبائك وأفصحت عن نفسي، وإن كانت الاخرى فيدك العليا ويدي السفلى والله غني حميد فالتفت الرشيد إلى غلامه " سراج " وقال له: حل عنه فأخذ سراج ما في قدميه من الحديد فجثى الشافعي على ركبتيه وقال (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) حاشا لله أن أكون ذلك الرجل، لقد أفك المبلغ فيما بلغك به، إن لي حرمة الاسلام وذمة النسب، وكفى بهما وسيلة، وأنت أحق من أخذ بأدب كتاب الله، أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذاب عن دينه، المحامي عن ملته.
فتهلل وجه الرشيد ثم قال: ليفرج روعك فإنا نراعى حق قرابتك وعلمك ثم أمره بالقعود فقعد.
وقال الرشيد: كيف علمك؟ يا شافعي بكتاب الله عزوجل؟ فإنه أولى الاشياء أن يبتدأ به.
فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تعالى تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله قد أنزل كتبا كثيرة.
قال الرشيد: أحسنت.
لكن إنما سألت عن كتاب الله تعالى المنزل على ابن عمي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة، فهل تسألني عن محكمه أو متشابهه أو عن تقدميه أو تأخيره أو عن ناسخه أو منسوخه، وصار يعرض عليه علوم القرآن ما أعجب به هارون الرشيد والحاضرون وأدهشهم.
فغير الرشيد سؤاله إلى العلوم المتنوعة من فلك وطب وفراسة وما إليها، فكان الشافعي يجيب على كل سؤال ما يسر الخليفة.
ثم قال الرشيد: عظني يا شافعي، فأخذ الشافعي يعظ الرشيد وعظا تصعدت له القلوب حتى اشتد بكاء الرشيد، فهاج الحاضرون فنظر إليهم الشافعي غضبا واستمر في وعظه.
وقد حصلت
للشافعي في هذه المحنة محاورات ومناظرات علمية مع صاحبي أبى حنيفة، وهما أبو يوسف ومحمد بن الحسن أعرضنا عن ذكر تفصيلها لان المقام لا يتسع لها وقد تكفلت بها الكتب المؤلفة في مناقب الشافعي.
عودته إلى مكة: بعد أن نجا الشافعي من تلك المحنة التي سبق ذكرها ونال إعجاب الخليفة والتقدير العظيم والاجلال البالغ رأى ان يعود إلى مكة فسافر ووصل إليها سنة 180 ه وضرب خباءه خارج مكة في ظاهرها فاستقبله أهل مكة استقبالا عظيما، فقسم بينهم ما جاء به من العراق من ذهب وفضة، عملا بوصية أمه له كلما جاء مكة فما دخل مكة إلا وقد وزع المال، فدخلها فارغا كما خرج منها فارغا.
وأقام في مكة سبع عشرة سنة يعلم الناس وينشر مذهبه بين الحجاج، وهم بدورهم ينقلونه إلى بلادهم رحلته الثالثة إلى العراق: وفي خلال هذه السنوات مات الامام أبو يوسف في سنة 182 ه ومات بعده الامام محمد بن الحسن سنة 188 ه ومات هارون الرشيد سنة 193 ه وبويع المأمون بالخلافة واشتهر حبه للعلويين وعطفه عليهم
فرأى الشافعي أن يعود إلى بغداد وأقام فيها شهرا واحدا وكان يلقي دروسه في جامعها الغربي الذي كان حافلا بالحلقات العلمية التي تربو على عشرين حلقة، فأصبحت ثلاثة فقط وانضم الباقون إلى حلقة الامام الشافعي.
وصادف أن ولى المأمون على مصرد، العباس بن موسى (أحد رجال بني العباس) فرأى الشافعي أن يرافقه في السفر من بغداد إلى مصر فخرج أهل بغداد لوداعه وفي مقدمتهم الامام أحمد بن حنبل فأمسك الشافعي بيد ابن حنبل وقال: لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر * ومن دونها أرض المهامه والقفر ووالله لا أدري أللعز والغنى * أساق إليها أم أساق إلى القبر؟ وكأن الشافعي أحسن بأنه سيموت ويقبر في مصر فبكى وبكى لفراقه أحمد بن حنبل والمودعون.
وعاد ابن حنبل وهو يقول لاهل العراق: لقد كان الفقه قفلا ففتحه الله بالشافعي، ورافق الشافعي في رحلته هذه إلى مصر كثير من تلامذته العلماء وفى مقدمتهم، الربيع بن سليمان المرادي، وعبد الله بن الزبير الحميدي وغيرهما.
وفي 28 شوال سنة 198 دخل الشافعي مصر مع العباس بن موسى عامل مصر وواليها من قبل المأمون، فأراد العباس بن موسى أن ينزله في داره ضيفا فاعتذر الشافعي ونزل عند أخواله من الازد اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة المنورة حيث نزل عند أخواله من بني النجار وفي الصباح تواكبت العلماء وتوافدت على الشافعي وفي مقدمتهم عبد الله بن الحكم، وكان من كبار علماء مصر وأعيانها وممن أملى عليهم الشافعي الموطأ في المدينة، فرآه خاضبا لحيته بالحناء عملا بالسنة طويل القامة، جهوري الصوت، كلامه حجة في اللغة، عليه دلائل الشجاعة والفراسة، فوضع بين يديه أربعة آلاف دينار.
ابتدأ الشافعي حياته العلمية في مصر وصار يلقي دروسه بجامع عمرو بن العاص، فكان يشتغل بالتدريس من الفجر إلى عليه صلاة الظهر وكانت دروسه متنوعة فكان بعد صلاة صبح مباشرة يجئ أهل القرآن فيقرءون ويسمعون منه، وإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث، فإذا كان
الضحوة الصغرى قاموا وحضر قوم للمناظرة ثم يجئ أهل العربية والعروض والشعر والنحو ولا يزالون كذلك إلى قرب انتصاف النهار، وبعد ذلك ينصرف الشافعي إلى داره ومعه بعض تلاميذه كالمزني، والربيع الجيزى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ويقول: الدنيا سفر ولا بد للسفر من العصا، وهو أول من سن سنة العمل في مصر إلى الظهر، وكان يشتغل في التدريس من الفجر إلى الظهر.
وكان العلماء يتلقون عنه العلم في الجامع وعلى باب داره إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فإنه كان يصعد إلى أعلى الدار ويتغدى عند الشافعي، وإذا نزل أركبه دابته وأتبعه بصره حتى يغيب، فإذا غاب كان يقول: وددت لو أن لي ولدا مثله وعلي ألف دينار لا أجد لها وفاء.
فتلقى عن الشافعي العلم علماء كثيرون، منهم الربيع الجيزي (وقد سميت الجيزة باسمه) والبويطى، وإسماعيل المزني، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وحرملة التجيبي وغيرهم، وكلهم صاروا أئمة في الدين والادب.
ونبغ على الشافعي أيضا نساء كثيرات كالسيدة أخت المزني التي أخذ عنها العلماء وأدرج اسمها في جدول كبار فقهاء الشافعية.
وكان الربيع الجيزي أكثر الناس ملازمة للامام الشافعي.
وكان الشافعي مغرما بقصب السكر، حتى كان يمازح جالسيه ويقول لهم: ما أقمت في مصر إلا حبا بالقصب.
مكانته العلمية: كان الشافعي رضي الله عنه حائزا القدح المعلى في كل فن، كان في العربية مرموق المكانة ويكفي أن الراوية لاشعار العرب " الاصمعي " كان يفتخر حيث تلقى على الشافعي أشعار الهذليين.
ولما قال الشافعي ذاكرا أقسام المياه الماء المالح، انتقده البعض حيث لم يقل " الملح " جريا مع القرآن (وهذا ملح أجاج) انبرى الزمخشري رادا على هؤلاء المنتقدين، وبين أن الشافعي حجة في اللغة وأورد قول الشاعر العربي.
فلو تفلت في البحر والبحر مالح * لاصبح ماء البحر من ريقها عذبا ثم تمثل الزمخشري وقال:
وكم من عائب قولا صحيحا * وآفته من الفهم السقيم.
كما أن الشافعي على قدم راسخة في علم الفلك، والطب، والانواء، والنجوم المتنقلة في سيرها وغير المتنقلة، يعرف هذا كل من قرأ سيرته في المؤلفات الخاصة في مناقبه.
حدة ذكائه وفراسته: أما الكلام على ذكائه وحدة فراسته فمتسع الجوانب نذكر منها مسألة واحدة وهي: بينما الشافعي في مجلسه إذا أتاه آت وقال له: سل العالم المكي هل في تزاور * وضم لمشتاق الفؤاد جناح؟
فأجابه الشافعي قائلا: أقول معاذ الله أن يذهب التقى * تلاصق أكباد بهن جراح فلم يفهم الحاضرون المراد من هذه المحاورة، فأبان لهم الشافعي أنه يسأل عن حكم تقبيل الرجل زوجته في نهار رمضان، فأحبوا ان يستيقنوا جلية المسألة فاتبع السائل أحدهم وسأله عما أراد من كلامه مع الامام فكان الجواب من السائل كما قال الشافعي.
ثناء الائمة عليه: يروى الخطيب في " تاريخ بغداد " عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك أنه قال: ما أتاني قرشي أفهم من الشافعي، وكان سفيان الثوري إذا سئل عن شئ من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا، وأما شيخه مسلم بن خالد الزنجي فإنه قال للشافعي وهو ابن خمس عشرة سنة: قد والله آن لك أن تفتى، وأما يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل فكل واحد منهما كان يقول: إني لادعو الله للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة وأستغفر له.
وكان أحمد بن حنبل يقول لابنه: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فانظر، هل لهذين من خلف؟ وأثنى أبو يوسف صاحب أبي حنيفة أيضا على الشافعي وقال: مثلك يصلح للتصنيف.
وما ذكرناه من ثناء الائمة على الشافعي قل من كثر، وغيض من فيض، وقطرة من بحر، فمن أراد المزيد فعليه بالمؤلفات الخاصة في مناقب الشافعي وكتب التراجم المطولة.
وليس الشافعي ممن يترجم له في أوراق أو كراريس وقد أفرد فريق من أجلة العلماء مؤلفات خاصة في سيرته ومناقبه ولكن أحببنا أن نوضح الخطوط العريضة في حياة هذا الامام الفذ رضي الله عنه.
مؤلفاته: لما دخل الشافعي المسجد في بغداد لصلاة المغرب رأى غلاما حسن القراءة يصلي بالناس فصلى الشافعي خلفه فسها الغلام في الصلاة ولم يعرف كيف يفعل، فقال له الشافعي، أفسدت صلاتنا يا غلام، ثم بدأ من حينه في وضع كتاب في السهو في الصلاة.
وقد فتح الله عليه فجاء كتابا كبيرا سماه " الزعفران " نسبة إلى اسم ذلك الغلام الذي سها في الصلاة.
وقد روى هذا الكتاب الحسن بن محمد الزعفراني وأحمد بن حنبل وعرف هذا كتاب ب " الحجة " وهو أحد الكتب القديمة التي وضعها الشافعي بالعراق، وألف أيضا في مصر " الرسالة " وهي أول كتاب وضع في أصول الفقه ومعرفة الناسخ من المنسوخ بل هو أول كتاب في أصول الحديث وألف كتابا اسمه " جماع العلم " دافع فيه عن السنة دفاعا مجيدا وأثبت ضرورية حجية السنة في الشريعة وكتاب " الام " و " الاملاء الصغير " و " الامالي الكبرى " و " مختصر المزني " و " مختصر البويطى " وغيرها.
وكتاب " الرسالة " وكتاب " جماع العلم " حققهما ونشرهما فقيد علم الحديث الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى.
أصول مذهبه: بنى الامام الشافعي مذهبه على الكتاب، والسنة، والاجماع، والقياس، ولم يجنح إلى الاستحسان الذي ذهب إليه الامام أبو حنيفة.
وتحرير القول في الخلاف بين الحنفية والشافعية في اتخاذ الاستحسان أصلا في الشريعة محله كتب الاصول.
اعتزازه بنسبه: كان الشافعي يفخر بنسبه على سبيل التشرف لا على سبيل الاستعلاء على الناس.
لذلك نجده شديد الحب لآل بيت رسول الله الذي هو منهم أيضا.
فلذلك لما رماه الحاسدون بالرفض أنشد وقال: إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أنى رافض وهذا التعلق بأهل البيه لم يجره إلى النيل من الشيخين أبي بكر وعمر والطعن في خلافتهما، بل
كان يرى لهما ولغيرهما من الصحابة فضلا في نشر الاسلام وإعلاء كلمة الله.
معنى الحرية في نظر الشافعي: كان الشافعي يرى الحرية في القناعة، والذل كل الذل في الطلب والسؤال فيقول.
العبد حر إن قنع * والحر عبد إن قنع فاقنع ولا تقنع فلا * شئ يشين سوى الطمع فلذلك نحد القناعة والاعتزاز بالرضا بما قسم الله ماثلا في قوله: أمطري لؤلؤ جبال سرنديب * وفيضي آبار تكرور تبرا أنا إن عشت لست أعدم قوتا * وإذا مت لست أعدم قبرا همتي همة الملوك ونفسي * نفس حرة ترى المذلة كفرا دخل على الشافعي طالب بعد انتهاء الدرس وقال له: أوصني فقال الشافعي: يا بني خلقك الله حرا فكن كما خلقك وفاته: أقام الشافعي في مصر خمس سنين وتسعة أشهر من 28 شوال سنة 198 ه إلى 29 رجب سنة 204 ه يعلم الناس ويؤلف ثم أصابه نزف شديد بسبب البواسير فاشتد به الضعف فلم يستطع الخروج لمزاولة التدريس فزاره تلميذه " المزني " فسأله عن حاله فقال: أصبحت والله لا أدري، أروحى تساق إلى الجنة فأهنئها، ام إلى النار فأعزيها؟ ثم رفع بصره إلى السماء وقال أبياتا، منها: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي * جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلا قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما وبعد ذلك نظر إلى من حوله من أهله وقال لهم: إذا أنا مت فاذهبوا إلى الوالي واطلبوا منهه أن يغسلني.
وفي ليلة الجمعة الاخيرة من شهر رجب سنة 204 ه بعد العشاء الاخيرة فاضت روحه الطاهرة إلى باريها بين يدي تلميذه " الريبع الجيزي " وانتشر خبر وفاته في مصر فعم أهلها الحزن فخرجوا يريدون حمله على أعناقم وهو في اضطراب من شدة الزحام.
وأصبح يوم الجمعة وذهب أهله إلى الوالي وطلبوا منه الحضور لغسل الامام كما أوصى، فقال لهم
الوالي: هل ترك الامام دينا؟ قالوا: نعم، فأمر الوالي بقضاء ذلك الدين، ثم نظر إليهم وقال لهم: هذا معنى غسلي له وبعد صلاة العصر خرجت الجنازة فما وصلت شارع السيدة نفيسة الآن خرجت السيدة نفيسة وأمرتهم بإدخال النعش إلى بيتها فصلت عليه وترحمت، ثم سير بالجنازة إلى القرافة الصغرى المعروفة وقتئذ بتربة أولاد عبد الحكم وفيها الشافعي وعرفت بعد دفنه بتربة الشافعي إلى وقتنا هذا:
ورثى الشافعي خلق كثير بعد وفاته نذكر بيتين لابن درين الازدي صاحب المقصورة من قصيدته العصماء قال: تسربل بالتقولى وليدا وناشئا * وخص بلب الكهل مذهو يافع فأثاره فينا بدور زواهر * وأحكامه فينا نجوم طوالع رحمه الله الشافعي ورضى عنه وأمطر على جدثه الطاهر شآبيب الرحمة والرضوان.